العميل مهم جدا ، العميل سيتبعه. رابط الاختبار

فاهم يا خويا _ فلتاؤس السرياني

فاهم يا خويا  فلتاؤس السرياني



فاهم يا خويا

القمص فلتاؤس السرياني

(1922-2010)


لما كنت شاباً صغيراً كان يوجد بالعمارة التي كنا نسكن فيها في حي شبرا أسره إجريكية تسكن بالدور الأرضي من العمارة، وكنت أعثر منهم جداًن ولكن يا خويا أنا كنت بخاف الله وكنت مواظباً على حضور القداسات وكنت شماساً أواظب على خدمة المذبح والتناول من جسد الرب ودمه، وكنت مواظباً على الاعتراف عند أبونا جرجس بطرس، وكنت مستحيل أن أعمل شيء يُغضب ربنا مني، ولكي أهرب من هذه العثرات، استأذنت من أسرتي واستأجرت غرفة بمفردي بعيدة عن العمارة كلها، لكي أحافظ على علاقتي بربنا. 

بعدما أخذت البكالوريا، وقبل أن أعمل في الجيش الإنجليزي، عملت لوقت قصير في محلات صيدناوي بشبرا، وكان معي في العمل إنسان غير مسيحي، فكان يعمل أعمالاً لا تليق بإنسان يخاف الله، وأراد أن يشركني معه في هذه الأعمال، وهي تزوير بعض المستندات بقصد أن يكسب من ورائها، فرفضت بشدة وقلت له: لا يا أخويا أنا إنسان أعرف ربنا، وأخاف أن أعمل أي شيء يغضبه، مستحيل أن أكون غير أمين في هذا المكان، فحاول معي أكثر من مرة فكان يجد في كل مرة رفضاً أشد من سابقه، فتضايق هذا الإنسان مني بشدة، لدرجة أنه هددني بالقتل، وأنا يا خويا لم أكن أخاف منه. وفي أحد الأيام حاول أن يعتدي عليَّ، فكانت توجد بيده مطواة وأراد أن يطعنني بها إن لم أشترك معه في التزوير، وكان يوجد بجواري شباك، ونحن كنا في الدور الرابع، فلم أجد وسيلة للهروب من هذا الموقف إلا هذا الشباك، فرشمت ذاتي بعلامة الصليب وطلبت شفاعة العذراء والقديسين، وقفزت من الشباك من الدور الرابع، وإذ بي أشعر أن شخصاً يحملني ويهبط بي بهدوء شديد، إلى أن وصلت إلى الأرض بسلام، ولم تحدث لي أي إصابات على الإطلاق، فاجتمع حولي أناس كثيرون، وأخذوني وذهبوا بي إلى مدير العمل، وعرف كل ما حدث لي وحاول أن يرضيني ويعطيني مكافأة، ولكنني صممت أن أقدم استقالتي من هذا العمل، وبعدها التحقت مع الجيش الإنجليزي. 

لما كنت في العمل يا خويا على السفن في الجيش الإنجليزي، فكان المسئولون يقومون بعمل اختبارات كثيرة لين بخصوص الالتزام، والأمانة، ودقة العمل، والمواعيد، وأشياء أخرى كثيرة، فلما تأكدوا إنني إنسان أخاف الله وأحبه، وكنت أستأذن منهم لكي أذهب إلى الكنيسة لأصلي وأتناول، فأحبوني جداً وائتمنوني على كل شيء حتى على أسرهم، فعندما كانت تأتي السفن وبها عائلات الضباط والجنود، كنت أنا المسئول الأول عنهم، ولم يأتمنوا أحداً أن يتعامل معهم أو يدخل إلى السفينة غيري أنا، لأنه كان غالبية أسرهم من النساء والفتيات والأطفال، فكنت أتعامل معهم وأنا واضع في قلبي خوف الله، وأقوم بواجبي نحوهم طول النهار، وعندما يأتي الليل كنت أسحب نفسي دون أن يشعر بي أحد، وأصعد إلى أعلى سطح السفينة بمفردي لكي أبيت هناك، وقبلما أنام كنت أصلي مزامير كثيرة، وأطلب معونة رب المجد يسوع، وأقول له: يارب احفظني من كل مسببات الخطية، أريدك يارب ولا أريد آخر سواك، يارب قوَّني، يارب ساعدني على رضاك، يارب نجني من كل الشرور، وكنت أصلي صلوات كثيرة أخرى إلى أن أشعر بالتعب وأنام.

قبل ما أدخل الدير يا خويا كنت مستحيل أن أخدم كشماس، وأتناول من جسد الرب ودمه، بدون أن أحاسب نفسي حساباً عسيراً على كل شيء، ثم أعترف على أبونا جرجس، وآخذ منه الحِلّ، ثم أتقدم إلى الأسرار الإلهية وأتناول منها، وأنا حاسس أني غير مستحق لهذه النعمة العظيمة ... وعندما دخلت الدير اعترفت على أبونا عبد الملاك السراني، وكان راهباً قديساً، وتعلمت الكثير من خبراته الروحية والرهبانية، وتتلمذت عليه وكنت أذهب إليه كثيراً، واعترف له على كل شيء بالتفصيل، فكان يشجعني ويسندني في الطريق الرهباني، وكان يعطيني نصائح وإرشادات مازلت اعمل بها إلى يومنا هذا.

بعد ثلاث سنوات من رهبنتي قررت أن أسكن في القصر القديم (الحصن) وكان في ذلك الوقت غير صالح للسكنى، إذ كانت أبوابه وشبابيكه معظمها مخلعة ومع ذلك قررت أن أصعد وأسكن فيه. فاستأذنت من أب اعترافي وأبونا الربيتة وسكنت في القلاية التي بجوار كنيسة الملاك في الدور الرابع ولم يكن بتلك القلاية سوى حصيرة، وكان قانوني الروحي هو الصوم إلى المساء وصلاة المزامير وعمل ميطانيات كثيرة واللي كانوا بيدفوني في أيام الشتاء القارس. 

عندما كان يثور العدو عليَّ يا خويا كنت أذهب في منتصف الليل والجميع نيام وأدخل إلى الهيكل وأقف أمام المذبح وأصلي إلى الله بدموع كثيرة جداً ومن كثرتها كان المذبح يتبلل. وكنت أشرح له كل ما يصيبني من ضيق وألم وتعب وأطلب منه يا خويا المساندة والمعونة فكان الله يستجيب لي في الحال ويرسل لي المعونة، فكنت أفرح لذلك جداً وأخرج من الكنيسة وأنا في قمة الفرح والعزاء الروحاني، وكنت أشكر الله على هذه النعم العظيمة التي لا أستحقها يا خويا.

بعد عدة سنوات من سُكناي في القصر القديم جاءتني فكرة أن أخرج إلى السياحة في البرية الجوانية فطلبت من الأنبا ثاؤفيلوس أن يسمح لي بذلك لكنه قال لي: "استنى با ابني شوية". ثم حدث أن تقابل مع البابا كيرلس السادس وأخبره بأمري، فطلب منه البابا كيرلس السادس أن يُرسلني إليه. وفعلاً جاء الأنبا ثاؤفيلوس وقال لي: "روح لسيدنا البابا عايزك". فروحت لسيدنا فقال لي: "يا ابني احنا عايزينك تخدم معانا في دير مارمينا وتعمر هناك". فقلت له: "بس أنا يا سيدنا فقير وغلبان وما عنديش حاجة"، فقال لي: "اسمع الكلام يا ابني وقول حاضر". وفعلاً أطعت وروحت دير مارمينا مع أبونا متياس وأنجيلوس وأبونا مرقس. 

وهناك كنت ماسك شغل المطبخ ونظافة الدير فكنت أقوم بالليل وأكنس طرقات الدير وأمسحها دون أن يعرف أحد بذلك لأني في الحقيقة كنت بحب مارمينا أوي. 

وكنا بنجيب المية بتاعتنا من بير جنبنا بحوالي 2 كم وكان أبونا المسئول باخد الكارتة بالحمار ويجيب لنا المية ويجي وفي ويوم الحمار، الظاهر أنه تعب من الشغل الكثير، فاتمرد على أبونا وطلع يجري وما قدرناش نربطه على الكارتة، فقلت لأبونا خلاص سيب لي أنا موضوع المية دة. فروحت بشجاعة كدة وابتديت أجر الكارتة مكان الحمار مسافة الـ 2 كم دول وجبت المية ورجعت للدير وأنا جارر الكارتة برضه. وبعدين أحد الآباء قال لي إن مارمينا ظهر له وقال له أنا مستحيل أنسى لأبونا فلتاؤس أنه حط نفسه مكان الحمار وجر الكارتة علشان يجيب المية للآباء وللدير بتاعي.

عندما كنت في دير مارمينا، كان يأتي إلينا هناك قداسة البابا كيرلس السادس، وكنت كل يوم أفرش المذبح وأرفع البخور باكر لقداسته، وكنت في غالبية الأيام أشترك معه في صلاة القداس، وفي أحد الأيام وكنا في الصوم الكبير وكان القداس متأخراً، فذهبت إلى الكنيسة وفرشت المذبح ورفعت بخور باكر، وإذ برحلة جاءت لتزور الدير ودخلت الكنيسة، وكانت كلها من النساء والبنات وكن لابسات ملابس المصايف، وكانت مناظرهن معثرة جداً، فزاروا الكنيسة والدير ثم انصرفوا إلى خارج الدير، فعنفت نفسي وقلت: كيف أنا راهب وأرى هذه المناظر، ثم بعد ذلك أصلي مع قداسة البابا وأتناول؟ إن هذا غير لائق، فأخذت تونيتي وقلت في نفسي: أنا سأعود إلى القلاية قبل ما يأتي قداسة البابا إلى الكنيسة، وبينما أنا خارج من الكنيسة إذ بقداسة البابا كيرلس يدخل إلى الكنيسة، فقال لي: رايح فين يا حبيب أبوك؟ فقلت لقداسته: أنا غير مستحق أن أصلي وأتناول في هذا اليوم، وحكيت لقداسته عن الرحلة، وحاولت أن أتهرب منه بأي أسلوب أو أي طريقة، فإذ بقداسته يمسك يدي ويقول لي: معلش يا ابني متخليش الشيطان يلعب بيك، هات التونية وتعال صلي معي، فقلت لقداسته: أخطأت حاللني يا سيدنا عن هذه المناظر، فقال لي: تعال يا ابني الله يحاللك، وصليت مع قداسته بعدما أخذت منه الحِلّ وتناولت وشكرت ربنا.

بعد ما قضيت عدة شهور في دير مارمينا في الخدمة والتعب والجهاد تعرضت لتجربة قاسية من عدو الخير إذ ضربني على كتفي الأيمن مما أدى إلى شلل ذراعي بالكامل وعندما عرف أحد الآباء بذلك نصحني بالتوجه إلى البابا كيرلس على القور وفعلاً ذهبت لسيدنا في البطرخانة وما أن رآني حتى قال لي "سلامتك يا ابني متخافش". ثم أخذ الصليب وصلى لي كثيراً ثم خبطني بالصليب على ذراعي المشلول ثلاث خبطات وقال لي: ياللا خلاص حرك ذراعك مفيش حاجة". وفعلاً في الحال حركت ذراعي فشكرت سيدنا وقلت له: "طيب يا سيدنا حاللني بقى أرجع ديري كفاية". فقال لي: "خلاص يا ابني. الله يحاللك ارجع ديرك وما تخافش أنا هاجي أزورك وأكون معاك دايماً". وفعلاً سيدنا نفذ وعده ده ورجعت ديري بسلام. 

بعد عودتي من دير مارمينا كان البابا كيرلس السادس يزورني بالروح على فترات متقاربة وذلك للاطمئنان عليَّ وتشجيعي على الجهاد الروحي والرهباني ولإرشادي وتدبيري في بعض الأمور العالية وحدث في سنة 1963م، أنه بينما أنا كنت في قلايتي فُتح باب المحبسة، وإذ بي أمام حبيبي البابا كيرلس السادس، والصليب الذي بيده يشع نوراً، ووجهه ملائكي مضيء جداً، فقمت على الفور وعملت له ميطانية، فقال لي: "تعال يا بني نروح الكنيسة، فروحت معاه. ولما ذخلنا الكنيسة سجد قاسته أمام هيكل الله .. وسجدت أنا أيضاً. ثم اتجه قداسته نحو أجساد القديسين الموجودة بكنيسة الدير، وقال "احنا بنكرم هؤلاء الشهداء والقديسين، من أجل سيرتهم العطرة، وجهادهم الصادق على اسم ربنا يسوع المسيح، ومن أجل محبتهم الكاملة والثابتة له". فعملت له ميطانية، وباركني، وشملني بدعواته، ثم انصرف. 

في أحد الأيام لم يكن معي أي نقود، وكنت محتاج أن أشتري بعض الأشياء، فأخذت أصلي وأطلب من البابا كيرلس أن يرسل لي ما أتدبر به أموري، فأخذت أصلي وأطلب من البابا كيرلس أن يرسل لي ما أتدبر به أموري. وبعد يومين أو ثلاثة، زارني أحد الأحباء، وقدم لي عشرة جنيهات، على سبيل البركة، فرفضت آخذها - برغم احتياجي - ولكن بعد يومين جاءني نفس الأخ وقال لي: "يا أبونا البابا كيرلس جاني في الحلم وقال لي: اعط الفلوس دي لأبونا فلتاؤس وقول ه إني أنا اللي باعتك"، فأخذتها منه وشكرت الله، وشكرت حبيبي وشفيعي البابا كيرلس السادس على عنايته بي حتى في أموري المادية. 
النفوس الطاهرة تعاين الأمجاد السماوية، إن نفوس الأطهار دائماً يشرق عليها شعاع الروح القدس، ويطلعهم على الأسرار الإلهية السماوية الغير منطورة بعين الجسد. إذا وصل الإنسان إلى درجة الطهارة، يستطيع أن يرى ملائكة الله على المذبح، وخدام الله يراهم في الهيكل، بالطهارة يستطيع الإنسان أن يشترك في النظرة الإلهية، النظرة الخفية، حتى أن عينيه يمكنهما أن تخترقا أسرار العالم الروحاني المحيط به، أي أرواح الذين انتقلوا، وأرواح الملائكة، وحتى أرواح الشياطين، والآباء السواح نراهم على طبيعتهم ونرى تحركاتهم، ويمكن أن نعاينهم بعين الجسد والروح. بالطهارة أيضاً نرى السمائيين، ونرى مجد الله حالاً على المذبح، بالطهارة تنكشف لنا الأسرار الإلهية التي على المذبح بوضوح، نرى الشاروبيم والسارافيم، نرى القديسين وهم محيطين بالمذبح. الطهارة عالية، عالية جداً. 

اسمع يا خويا 
أنا من يوم ما دخلت الدير إلى هذه اللحظة،
وأنا أمين مع ربنا في كل شيء،
في تدبير سيرتي وكل تصرفاتي،
لذلك يا خويا ربنا استأمني على مواهب كثيرة، 
فاهم يا خويا.



المرجع: كتب الراهب القمص فلتاؤس السرياني، إصدار دير العذراء السريان ببرية شيهيت